اوقف السائق السيارة امام تلك المساحة المنبسطة من الحشيش الأخضر الملىء بشواهد القبور المكتوب عليها حفراً و باللون الأسود اسماء الراقدين و تواريخ ميلادهم ويوم وفاتهم. وامام تلك الشواهد نُثرت الاف من باقات الورد البنفسجى اللون. نزل السائق من السيارة وفتح بابها الخلفى. خرج منه رجل عجوز ستينى، ملامح الأرهاق والتعب بادية عليه، تصارعها إمارات الحزن. غلبته دمعة عندما لمح من بعيد الجمع وسمع اصوات البكاء والنحيب، مسحها سريعاً بمنديله المعطر و اخفى عينيه الدامعتين بنظارة شمسية سوداء و مد الخطى.
تأخر هو و لم يلحق الجنازة من بدايتها.. كان يشعر بالتعب والأرهاق، زاده اليوم حرقان بالبول فى الصباح. اتصل على اثره بالطبيب المعالج الذى اعطاه موعد قرب منتصف النهار، اى بعد الأنتهاء من الجنازة لحسن الحظ !!، فأسرع اليها.
وصل الى شاهد القبر بعد ان انتهت الصلاة. على المنصة الزوج يلقى على الجمع الباكى كلمات التأبين:" كانت تكتب كل يوم على السبورة الموضوعة على الثلاجة كلمة جديدة بيدها المرتعشة لبنتنا حتى تتعلمها، كانت امرأة مليئة بالأمل والصبر والقدوة والرغبة فى تحقيق ما فاتها. لم يقعدها المرض ولم يهزمها اليأس ولم تترك موقعها ابداً رغم ما عانته من الام شديدة قاسية، كان تتحمل الألم فى صمت وهدوء حتى تبعد الحزن عن ابنتنا هو كل ما يهمها، كانت تذهب الى المدرسة تعلم و تتعلم ، لم تيأس ابداً و كانت تثق فى أن الله هو الشافى و ان من سمح بالمرض سيسمح بعلاجه، و لكنه كاللعين انتشر فى جسدها الطاهر ولم يترك لها فرصة للنجاة، كانت قوته امام رغبتها فى الحياة ، كانت شدته امام تمسكها بإيمانها و بأن الشفاء قريب.. كانت قسوته امام حبها، فلم يتحمل الجسد الضعيف المعركة و انهار تماماً".. يبكى الزوج فيثير عاصفة من الحزن والبكاء بين المستمعين، يربت على كتفه الكاهن مشجعاً حتى يتمالك نفسه و بكلمات مخنوقة و عينين دامعتين يكمل الزوج " لا لا أصدق انها فارقتنى، لم اتعلم الحب والأمل والحياة الا على يديها " .. يرفع صورة زوجته و يقبلها فينفجر الجمع مجدداً بالبكاء الحاد... و بعد لحظة صمت طويلة.. يكمل الكاهن "ان الزوجة فى عز عذابها وتعبها الجسدى ارادت ان تشاركم كما تعودنا منها المشاركة، ارادت بعد موتها ان تطلقوها حتى تظل روحا حية فينا كلنا، ارادت ان نتذكرها – تلك التى لا تنسانا- وتظل ساكنة فى قلوبنا، موجودة امام اعيننا، كائنة فى حياتنا"... " لذا فقد طلبت ان يتم حرق جسدها و جمع رمادها ووضعه فى عبوات بلاستيكية صغيرة توزع علينا جميعاً حتى لا ننساها او تنسانا حتى تظل روحها حاضرة امامنا "..
نزل شابان صغيران، يحمل كل منهما صينية فضية صغيرة موضوع عليها عبوات بلاستيكية مليئة بالرماد الخاص بالزوجة، و على الغطاء صورة صغيرة لها تبتسم بها وترفع يديها مودعة بالسلام.
"ساخبرك يا حبيبتى ما تختلفين به عن جميع النساء، كل مرة كنت تسئليننى فأهرب من السؤال، الأن و روحك ترانا، سأخبرك".."انى قد ارتويت من الحب على يديك"..
انتهى الصبيان من المرور وتوزيع كل العبوات على الحاضرين، اخذ الرجل العجوز علبته وحملها فى يده ، نظر الى الصورة فأدمعت عيناه من خلف نظارته وتمتم بكلمات مبهمة. انهى الكاهن صلاته واصطف الزوج والأب والأم بجوار المنصة يتلقوا العزاء فى محبوبتهم، ساد الصمت الا من انفاس الحضور وشهقاتهم وتفجعاتهم وتمتاتهم، تكررت كلمات العزاء رتيبة مملة " البقية فى حياتكم". انتهى العزاء مع رحيل اخر معزى. انتقل الجميع الى سياراتهم.
ركب العجوز السيارة وانطلق السائق بها. هبطت الذكريات المشتركة بينه وبينها على عقله وتمر امامه كشريط من الأحداث المتلاحقة. خلع نظارته الشمسية فبدت عيونه المغرورقة بالدموع وتساقطت ببطء على وجنتيه امسك العلبة وقبل الصورة ووضعها بعناية فى جيبه. اهتز محموله فأخرجه من جيبه، وجد المنبه يذكره بموعد الدكتور. تذكر اوامر الطبيب، وعند المرور بجوار اول شجرة فى بداية الساحة المجاورة للمدافن امر السائق بالوقوف و الأنتظار قليلاً. اخبره الطبيب صباحاً، فى الهاتف، الا ينسى ان يحضر معه عينة من البول حتى يمكن تحليلها لتشخيص وتحديد المرض. فتش العجوز جيوبه، وأخرج منها العبوة البلاستيكية، نظر الى صورة الزوجة على الغلاف و تمتم: to love someone is to let'm free . فتح العبوة و القى بالرماد فتناثر محتواها فى الهواء الذى نثره فى كل الأتجاهات. فتح العجوز بنطلونه و افرغ مثانته فى العبوة البلاستيكية. و بعد ان انتهى، ركب السيارة و أمر السائق بالأنطلاق الى عيادة الطبيب.
1 comment:
لم تعد باستطاعتك الغواية؟؟؟
مين قال كدا؟
و ليه تقول كدا؟؟
لا يحق لك يا قداستك هذا القول بتاتا
تحياتي
Post a Comment