
عزازيل 1
البلاى-أستيشن
---
اُدخل الى احد الكافيهات الجديدة المنتشرة حديثاً بمصر الجديدة او مدينة نصر، تجده يجلس على منضدة مستديرة، يمسك الكتاب بيمنيه و لىّ الشيشة بيساره. من وقت الى أخر، ينزل الكتاب من امام وجه فيظهر شعره المصفف بعناية و النظارة ذات الماركة العالمية. تختلط ملامحه بالدخان المنفوث من الشيشة فتنتشر رائحة الخوخ او الكانتالوب فى المكان، ينظر من خلف الكتاب الى مدخل الكافيه ثم يلتفت الى يديه يلمح الوقت من ساعته التيسوت كأنه منتظر احدهم. يرفع الكتاب مرة أخرى و يقربه من وجهه ليعاود القراءة. بعد فترة ليست بالقليلة، ينزل الكتاب ببطء على المنضدة و يضع الفاصل الكارتونى المقوى على الصفحة التى كان يقرأها حتى لا يفقدها. يلتقط بخفة فنجان الموكا بالهازلنت الموضوع امامه، يلمح بنظره الباب فيجد صديقه المتأخر يدخل من الباب حاملاً فى يده كتاب. يقترب من صديقه المنتظر، يلقى عليه السلام، فيرده و يسئله عن أسم الكتاب فيجيبه " عزازيل". يضع الكتاب على المنضدة و ينادى الجرسون ليطلب مشروبه المفضل و يتبادلا اطراف الحديث عن البورصة و البنات و شاليه العين السخنة و رحلة شرم التى أقترب موعدها..
--
فى هذه الأجواء التى نعيشها و نتفس من هوائها, فى تلك العولمة التى جعلت كل شىء قابل للأستهلاك، صارت القراءة هى الاخرى من السلع الأستهلاكية. اصبح القارىء الجديد يستهلكها كجزء من الوجاهة الاجتماعية، كأى سلعة اخرى تدخل فى بند الرفاهية. فالكتاب أصبح اكثر فخامة و شياكة و ورقه اكثر لمعاناً و الطباعة كما يقال فاخرة، و لا يتحصل على ثمن الكتاب الا المقتدر. هذا القارىء الجالس على الكافيه، الذى يحمل فى يده اليمنى كتاب و فى الاخرى لىّ الشيشة، لم يعد يهتم بالمحتوى فقد تحول فعل القراءة الى مجرد نوع من انواع التسلية و تقضية وقت الفراغ، حيث الكتاب لا يخاطب القارىء المثقف بل الفئة التى تسعى كى تكون مثقفة كجزء من عملية الأستهلاك التى تمارسها، يخاطب الفئة القادرة على شراء الكتاب و رفع نسبة مبيعاته و تحويله الى "بست سيلر"!!.
القراءة ليست لعبة مجانية، ليست هواية نلجأ إليها أثناء السفر، أو نحن نشاهد التلفاز، القراءة نشاط ذهني واع. تختلف القراءة من شخص إلى آخر، هذا الاختلاف يعود إلى القارئ و درجة وعيه بالقراءة – أي بالنص المقروء - إن القراءة فعل واع، متأن، مصغ. إنها القراءة التي تغير الذات ، التي لا تستسلم للنص، بل تدخل معه في حوار، باحثة عن مفاتنه، عن تميزه، عن دلالاته المتعددة، وتأويلاته اللا-نهائية، عبر مختلف العـصـور ذلك هو سر خلود الأثر الأدبي.....
قد ترى ان فعل القراءة نفسه قد يكون وسيلة ما للمعرفة و ان الكتابات الجيدة هى وسيلة ترتقى بالذوق الأنسانى، حتى لو كانت قراءة عابرة.. لذا أسئلك عن البلاى-استيشن
هل تعرف ما هو البلاى-ستيشن ؟
البلاى-ستيشن هو وسيط من وسائط الالعاب مصنوع بأفضل التقنيات الألكترونية الحديثة، يبث صورة ثلاثية الابعاد لكل انواع الألعاب التى تريدها سواء كرم القدم ( وينينج الفن) حيث تشاهد الفرق مجسمة امامك على شاشة التلفزيون، و يوجد منه " الويى" الذى يستغل تقنيات " السيميوليتور "- "المحاكى", حيث تنتقل الحركات من جسمك عن طريق وسائط النقل الالكترونية فتجدها على الشاشة. هذه التقنيات الحديثة التى تلهب عقول الأطفال و تجعلهم يتسمرون امام الشاشات, استخدمت فقط للتسلية و لملء وقت الفراغ أى بكل بساطة صنعت " لتضييع الوقت "، رغم انها تعد من اعلى التقنيات الحديثة المتطورة. و هو بالضبط ما ينطبق على صناعة الكتاب الحديثة، حيث يقدم الكتاب فى أفضل صورة من طباعة و تغليف و ورق و لكنه يقدم فقط للترفيه و ملء الفراغ، على الرغم من الجهد المبذول فيه من لغة و بناء و سرد و لكنه – كالبلاى-استيشن- تقديم أفضل ما يمكن تقديمه لصناعة الترفيه لمن يستطيع الأستهلاك فكما ان سعر البلاى-أستيشن مرتفع لا يقدر على ثمنه الا من يستطيع، هكذا الكتاب أيضاً.
فالكتابة الجيدة اخذت من المحيط الذى ينتجها وسائلها و ادواتها. فالنص هو نتاج الثقافة التى انتجته و فعل القراءة هو عملية تبادل بين المنتج (النص) و الوعى و الرصيد المعرفى للقارىء حيث يمكنه سبر اغوار النص و قراءته قراءات مختلفة تغوص فى اعماقه و تؤهله لأعادة بناءه النص مرات متعددة و قراءة دلالاته بصيغ مختلفة فيخرج منه كل مرة برؤية جديدة للعالم.
و لان الكاتب الجديد يبحث عن " البست-سيلر" بين يدى قارىء يحمل كتابه باليد اليمنى و مج النسكافيه باليسرى، لذا فقد ابتعدت الكتابات الجديدة عن وضع ملامح و اعماق للشخصيات و هربت من الترميز و التجريب و التحديث و الواقعية الملموسة و تطوير شكل الرواية، بل اقتربت بشكل كبير من المباشرة و السطحية و الواقعية المبتذلة التى تثير و تجذب هذا القارىء الأستهلاكى الذى يقرأ عن تلك العوالم الغريبة عنه كأنه يقرأ فانتازيا سوبر-مان (عوالم العشوائيات كرواية" فاصل من الدهشة "، او فضائح المثقفين و حكايات اولاد الشوارع كرواية" تغريدة البجعة")*..
كمثال: فى عمارة يعقوبيان، رواية الأسوانى الشهيرة، اقتربت الرواية من الواقعية السطحية و المباشرة الشديدة حتى ان احد الشخصيات المهمة فى الرواية و المفروض انه " محاكاة للواقع" حمل أسم "كمال ال..فولى"!!!. و ابتعدت عن الترميز كرواية ثرثرة فوق النيل او عن التجريب و التجديد ك"ذات" صنع الله أبراهيم او قراءة الحاضر بالتاريخ ك" الزينى بركات " للغيطانى، او حتى خلط الاسطورى بالواقع بالدينى كاولاد حارتنا، او حتى واقعية أدريس.
أما رواية زيدان " عزازيل" حيث تُقَدَم الرواية بها الخلطة السحرية التى تجذب القارىء الجديد "جنس و سياسة و عنف و دين" محملة بوجهة نظر المؤلف و وردت على لسان الأبطال تنتصر لوجهة نظر و عقيدة الاغلبية ". تلك الرواية مصنوعة بتكنيك روائى عالى حيث تبهرك اللغة و يجذبك البناء و يدهشك تطور الأحداث و تتامل وقائع من التاريخ ربما لم تسمع عنها و لا تنسى ان تتسلى ببعض مشاهد الجنس فتصير بتلك الخلطة كالبلاى-استيشن جزء من عملية ترفيه كبيرة و ألهاء منظم و وسيلة لتضيع الوقت مصنوعة باعلى المواصفات التقنية مستخدمة افضل وسائل النشر من شياكة و طباعة و تغليف.
العلاقة بين الكاتب و القارىء.
بين حفلات التوقيع التى لا تتوقف و بين طباعة الكتب التى لا تنتهى بأسمائها العامية الغريبة المبتذلة السخيفة و تلك المكتبات الحديثة التى انتشرت مؤخراً بفروعها الكثيرة و التى تقدم مشروب ساخن و مقعد و تكييف و تُسلم لك الكتاب عند باب المنزل و كلها جزء من عمليات استهلاكية عولمية و وجاهة اجتماعية تعطيه مظهر المثقف الذى يرتاد بأستمرار تلك المكتبات ما بين نقاشات ساخنة( نسبة الى المشروب و ليس النقاش) و حفلات التوقيع لكل كتاب يصدر حتى لو كان بعنوان " جوز امك يا مصر "، نقف عند القارىء:
فالقارىء، كما نعرف، يقرأ النص حسب الأهتمامات و المرجعية التى تخصه او حسب ثقافة و مرجعية الجماعة التى ينتمى اليها. اما الكاتب الذى ينتج النص باداوته و يصيغ العالم بلغته الخاصة و منظوره الشخصى و برؤيته الثقافية التى تنبع من المجتمع المحيط به، عينه على القارىء ليصنع البيست-سيلر. و بالتالى القارىء الذى يقرأ النص بحسب مرجعيته و رصيده المعرفى، الشيشة و الكافيه و البنات و العين السخنة، لا ينتظر رموزاً و لا تجريباً و لا خلط التراث بالواقع و لا التاريخ بالحاضر و لا الدينى بالأسطورى و لكنه يريد ان يكون مثقفاً كأنها موضة عصر**.. هو فقط ينتظر الخلطة السرية. فالقراءة الواعية ترتبط باستعداد القارىء و هذا الأستعداد تحكمه شروط الثقافة العامة و المرجعية و الزمان و المكان ( و ما اعمق تلك الشروط فى زماننا الحالى!!!!!) ، حيث ان قراءة النص تتطلب قراءة متأنية متعمقة تسبر اغوار النص و تكشف عن طبقاته و أعماقه عن طريق طرح اسئلة كبرى يبحث عن اجابتها القارىء القلق الشغوف المهموم بالواقع و حاضره و يشتبك مع قضاياه الأنسانية الكبرى!!!!.. (هل تتوفر تلك القراءة الواعية فى صناع البيست-سيلر؟..)
هذه الرواية، بهذه الطريقة، تقدم لقارىء محب للكومبو لارج من ماكدونالدز و يؤمن بثقافة التيك-اواى. هذا القارىء سينهى الرواية و يضعها جانباً و يكتفى بالمعلومات التى قدمها له الكاتب. لن يرهق نفسه بالبحث عن التاريخ و الوقائع و الاحداث و يتحرى صدقية النص و الخلفية التاريخية للاحداث و التطور البشرى و الانسانى و الفلسفى و الفكرى منذ تلك الحقبة حتى الأن، بل سيتخذ من كلمات الكاتب وثيقة تاريخية دون مراجعة التواريخ و الاحداث و الشخصيات. هذا القارىء – كما قلنا – لن يقرأ بعمق، و لا بوعى ، و لا بتأن, بل سيستهلك الكتاب كما يتسلى بالبلاى-ستيشن، لأنه كما سمع، هذا الكتاب يثير ضجة. ( و النموذج المثالى لهذا القارىء هو الانبا بيشوى الذى أعلن بكل وضوح انه لم يقرأ الرواية بالكامل لأنه يحتوى على بعض المشاهد الجنسية كما سمع).
هذا القارىء هو من صنع اسطورة عزازيل، البعض حول هيباتيا الى شهيدة التاريخ و حدث الحقبة المحورى حيث العنف يظل عنف!!. و اخر، يحب الفضائح الدينية او من الاصوليين، اعلن بكل وضوح أن يوسف زيدان هو فاضح الكنيسة و كاشف اسراراها لأنه ارتجت و ثارت امام هذا النص. و أخرون (و اخص بهم الكنيسة) اعلنوا بكل وضوح ان الرواية تنتهك عقيدة الأقلية و تدافع عن صف المهرطقين أعداء الكنيسة، يتلقف هذا الكلام محبى الفضائح ليزدوا من الأثارة فترتفع المبيعات و يتحول زيدان الى شهيد يواجه بطش الكنيسة، و فاضح للمسيحية.
استثمر السيد يوسف زيدان هذه الضجة و اتحفنا بكتابه " الاهوت العربى و اصول العنف "، لتكتشف عزيزى القارىء طرق صناعة " البيست-سيلر"..
فماذا قُدّم لنا فى هذا الكتاب؟
---
* ليس معنى ذلك ان تلك الروايات سيئة و لكنى اتكلم عن كيف يقرأ القارىء النص و ما هى مناطق اهتماماته به و ما الذى يجذبه الى قراءة تلك النصوص.
** فيلم " عسل أسود" هو النموذج المثالى للعبة " خليك مثقف بأبسط المجهودات و بأسرع الوسائل".. حنخيلك مثقف بس أتصل بينا .. اتصل بنا تصلك الثقافة حتى باب البيت!!!!!!!!!!!!.