-1-
لم يغير جدى عاداته يوماً واحداً . يصحو كل يوم مبكراً . يضىء نور الصالة و يدير جهاز الراديو على أذاعة مونت كارلو ليسمع الأخبار أثناء أعداده الأفطار . يخرج العيش البلدى من الثلاجة و يضعه فى فرن البوتاجاز . يخرج " قالب " جبنة قريش و طماطم . يهرس الجبنة و يقطع الطماطم الى قطع صغيرة و يخلطهما . يضع قليل من النعناع و الزيت عليهما . يقشر فص توم , يبلعه قبل الأفطار . يُخرج العيش من الفرن و يجلس على الترابيزة ليتناول أفطاره .
جدى تبدو عليه امجاد مجد قديم . بقايا وسامة مازالت عالقة فى ملامحه . طويل القامة و عريض , جسده ممشوق ممشدود , شعره أسود , يرتدى البدلة الصيفى " بتاعة عبد الناصر " و النظارة الشمس الريبان الأصلى . يمسك عصاه كجزء من الفخامة و ينزل بعد الأفطار ليتابع أعماله . جدى يملك ثلاث محلات , واحد للفول و الطعمية , و اخر للكشرى و الثالث مسمط . و ثلاث جراجات فى الحى الذى نسكن فيه احدهم بجوار محطة البنزين التى يملكها . ينزل كل يوم يتفقد احوال المحلات و الجراجات , يعود متأخراً أخر اليوم . نفس الروتين كل يوم الا يوم الأحد الذى يملك عاداته الخاصة .
-2-
يسافر أبى كثيراً . من الأثنين الى الخميس من كل الأسبوع . فنذهب الى بيت جدى لنبيت هناك حتى يعود . فى أيام الدراسة يوقظنى جدى بعد أفطاره حتى أذهب الى المدرسة , اما فى الصيف فيوقظنى لكى أذهب معه لنباشر الأعمال . أعود منهك من تلك اللفة الكبيرة على المحلات و الجراجات . ندخل البيت فتضحك جدتى و تسئلنى عن اخبار الشغل فأجيبها بأن كله تمام . يفهمنى جدى بأن لا اكون " طرى مع الستات " و انه ينبغى عليهم عند عودتى فى ميعادى المعروف أن يكون الطعام ساخنا ليوضع على السفرة مباشرة عند دخولنا . و هو ما يحدث فعلاً . لم تتأخر جدتى و أمى عن ذلك يوماً واحداً .
فى الصيف أخرج مع جدى لكى نباشر الأعمال . كنت وقتها لم أُكمل العشر السنوات . و كنت اشعر بالسعادة نتيجة للأحترام المبالغ فيه من العمال . فانا حفيده الأول و علامات الفخر المرسومة على وجهه واضحة جداً . يجرى العمال فى الجراج لأحضار كرسيين عند دخولنا و " اتفضل يا سعادة الباشا الصغير " . اجلس فى هدوء الباشا فيجرى أخر لاحضار " حاجة ساقعة للباشا الصغير " و كوب الشاى الأصطباحة لل" باشا الكبير " . ناكل أكلة خفيفة جداً فى احدى المحلات أثناء اللف و ينتهى بنا المطاف اخر اليوم عند صديق جدى الحج مصطفى صاحب ورش الخراطة . نجلس عنده حتى ميعاد العودة الى المنزل .
-3-
يختلف هذا الروتين يوم الأحد , يوم الرب . يصحو جدى متأخراً ساعة عن ميعاده . لا يفطر . يوقظ البيت كله لنذهب الى الكنيسة . نعود بعد الكنيسة الى البيت . يوم الرب . تتجمع الأسرة كلها . أمى و خالاتى و خالى الوحيد . كل خالة بزوجها و أولادها . ترجع خالاتى و اولادهن مع جدتى الى البيت يطبخن فى أنتظار الأزواج لحين عودتهم من العمل . لا نعود انا و جدى مباشرة بعد الكنيسة الى البيت بل ننجز بعض المهام أولاً . تعود الزوجات الى البيت و نذهب أنا و جدى الى السوق لشراء الخضار والفاكهة و اللحوم و الطيور " او الزفر " كما كان يسميه .. لأن من يحدد غذاء يوم الأحد هو جدى .
جدى , كما تخبرنى جدتى : كان معجبانى و حليوة , لذا فهو يمارس تلك المعجبانية الأصيلة على البائعات فى السوق . فأم جمعة العجوز السوداء بائعة الفجل و البقدونس و الجرجير و الليمون , كما يقول لها جدى , تزداد حلاوة كل أسبوع !!!! . اما فتحية , المزة الأصلى كما أراها انا , بائعة البصل و الخس , فهى تجعل جدى يندم كما يقول لأن الشرع فى المسيحية لا يبيح التزوج من امرأتين !!! يا قطة انتى . و لانه أبن نكتة فجميع بائعى السوق ينتظرونه لألقاء اخر نكتة على مسامعهم . اتعجب كثيراً من أين يأتى جدى براحة البال تلك . و اتعجب اكثر من الاختلاف البين فى شخصيته . فالعاملين عنده يهابونه و يخافونه لحزمه و شدته و مع ذلك هو لا يتورع أن يلقى نكتة على مسامع صبى القهوجى الذى يحضر له الليمون و هو جالس عند الحج مصطفى . ننهى جولتنا عند " الخُضرية " و نذهب الى أبو جرجس صديق جدى بائع الفاكهة . نجلس عنده قليلاً نشرب الليمون و نأكل سندوتشات الجبنة بالطماطم . ننهض و يخبره جدى بأن يجهز الفاكهة المطلوبة و سيرسلنى جدى اليه بعد ساعتين لأحضرها . لا يدفع جدى ثمن الفاكهة بل يمر عليه ابو جرجس أول كل شهر و يجلس معه فى البنزينة " ياخد واجبه " و يأخذ ثمن الفاكهة عن الشهر الفائت لأنهم اصدقاء و " ما بين الخيرين حساب " .
نعود الى المنزل حاملين الخضار و الزفر , فنجد ان السيدات قد انهين الافطار . يضع جدى ما يحمله على السفرة . تبدأ الخالات و امى تحت قيادة جدتى رحلة أعداد طعام الغذاء ما عدا السلطة لأن جدى هو من يقوم بتجهيزها . تبدأ عملية الأعداد و تستمر حتى مجىء الأزواج . و مع دخول اول زوج يبدأ جدى فى أعداد السلطة و يخرج زجاجات البراندى و العرقى و النبيت لكى يقوم الرجال بالمَز بالكبد و القوانص و قطع البفتيك قبل الطعام و لأنى كنت حفيده المفضل فكان دائماً " ينوبنى من الحب جانب " .
-4-
يوم السبت . يوم جدتى . يعود جدى مبكراً لتناول الغداء مع جدتى و الاولاد . يدخل ليستريح قليلاً . " ح-أيِل شوية " كما يقول . يستقيظ بعد غروب الشمس . يرتدى ثيابه و ينزل الى السيارة . بيجو 504 . سيارة " المعلمين الكبار " فى ذلك الوقت . تنزل جدتى بعدها و يخرجا للنزهة . يعشق جدى النيل و التمشية على كوبرى " قصر النيل " . يركن السيارة فى أقرب مكان , ينزلا منها لتكون نزهتهما هناك على الكوبرى . يسيرا حتى التعب . ثم يختارا أى مطعم للعشاء . و يعودا متأخراً . ينام مباشرة استعداداً ليوم الأحد . خمس خالات و خال واحد . اربعة متزوجات . خالتى الصغيرة و خالى مازالا يعيشا مع جدى و جدتى . خالى يعمل محاسب فى أحدى الشركات و خالتى دكتورة تدير صيدلية احدى المستشفيات . نجتمع مرة فى الأسبوع جميعاً . و نبيت انا و أمى عند جدى من الأثنين الى الخميس . لم يحدث شىء يعكر صفو حياتنا . لم يحدث أن ضربنى جدى الا مرة واحدة و بسبب الحج مصطفى .
-5-
جدى و الحج مصطفى أصدقاء منذ قدومها من الصعيد , لا يفترقا أبداً . لابد ان يمر عليه جدى كل يوم فى الورشة , او يمر عليه الحج فى البنزينة . فى رمضان , شهر الصيام الخاص بالمسلمين , نفطر مرة عند الحج و مرة يفطر عندنا الحج . علاقتهم غريبة و معروفة فى الحى كله . فمن يريد شيئاً من جدى تكون واسطته الحج و من يريد شيئاً من الحج تكون واسطته المقدس كما يقولون . دائماً معاً فى الأفراح و المأتم . صداقة لم يفرقها الا الموت . موت الحج .
عندما علم جدى بوفاة الحج مصطفى , كان يتصرف كأن القيامة قامت . لم أفهم افعاله تماماً . لم أفهمها حتى الأن . فجدى أصر على ان يذهب الى الجنازة بنفسه . وقفنا على باب الجامع ننتظر . و ذهبنا ورائه بالسيارة حتى المدافن . و أقام جدى الصوان و اشرف عليه بنفسه . و وقف يستقبل العزاء على مدخله و هو يبكى . كانت تلك هى المرة الأولى التى أرى فيها " الحليوة المعجبانى " يبكى . مال علىّ جدى و اخبرنى بصوت متحشرج " لما تسمع كلمة الفاتحة , ارفع ايدك و قول أبانا الذى .. فاهم ؟ " . و لما اخبرته " دول مسلمين منقلهمش ابانا الذى , و احنا مالنا بيهم " . كانت تلك هى المرة الأولى التى ضربنى فيها و صرخ فى وجهى " اوعى أسمعك تقول الكلام ده تانى " . لم أفهم وقتها لماذا ضربنى و لماذا ينبغى علىّ ان اقول " ابانا الذى .. لشخص مسلم " . و لكنى ارضاءاً له كنت ارفع يدى و اتمتم بكلمات غير مفهومة اما هو فكان يتلوها بصوت عالى . بعد انتهاء العزاء , وقف جدى امام محمود ابن الحج مصطفى يشد على يده و يخبره و هو يبكى " اوعى يا محمود متحضرش جنازتى .. اوعى يا أبنى .. انا مكنش لىّ غير أبوك .. و لازم حد من ريحته يحضر جنازتى .. اوعى يا محمود " . و لأنى كنت حاضر تلك الواقعة , فقد أصبحت شاهد عليها .
-6-
تغير جدى كثيراً بعد هذا الحادث . لم يغير عاداته و لكنه تغير . لم يعد يمرح او يضحك . أصبح قليل الخروج و لم يعد يمر طويلاً على كل المحلات . أصبح مروره سريعاً و يجلس فى محطة البنزين كثيراً . تشعر بأنكسار فى نبرة صوته . لمدة شهور بعد الوفاة لم يقطع عادة المرور على ورشة الحج و يجلس مع أبنه محمود الذى لا يهتم كثيراً بتلك الزيارات كما لاحظت بل يسعى لأنهائها مبكراً . ثم انقطعت تلك العادة .
فى اخر جلساتنا مع محمود , أنصرف مستئذناً لأنه سيصلى المغرب و يعود بعدها الى المنزل . تكرر الموقف اكثر من مرة . لم يكن الحج مصطفى يستأذن و ينصرف . بل كان يصلى فى الورشة . يفرش سجادته و يصلى المغرب و جدى منتظر , يحتسى الليمون . و لما ينتهى الحج من صلاته يسارع جدى بالقول : الله يتقبل يا حج . فيجيبه الحج : منا و منكم إن شاء الله . أنقطعت زيارة جدى بالتدريج و أصبح يكتفى أثناء مروره بالتحية فقط . زاد صمته و سكونه . مرارته فى الكلام أصبحت واضحة . ملامحه ازدادت حزناً و لم يعد يهتم بمظهره . لم يعد يلقى بنكاته أو يداعب ام جمعة . لم يعد ينعى حظه لصعوبة زواجه من فتحية . و كما قالت جدتى لى التى لم تعد تخرج من البيت : جدك خلاص كبر و مبقاش زى زمان .. أدعيله يرجعله راحة البال اللى كانت عنده .
تولى خالى عملية المرور و التحصيل و متابعة الأعمال . و كنت احياناً امر معه و لكن كثيرا ما أرفض لأننى أفضل المرور مع جدى . فخالى صموت قليل الكلام . لا يحب " الملاغية و المناغشة " و لا يجيد القاء النكات . لا يحب البذخ و الصرف على عكس جدى تماماً .
-7-
تتزوج خالتى من دكتور زميلها فى المستشفى . تترك المنزل و تذهب للسكن بعيداً بمدينة نصر فى شارع مكرم عبيد . يترك خالى وظيفته كمحاسب فى احدى الشركات و ينضم الى احدى الرهبانيات الخدمية . دخل الدير و انقطع للدراسة و الصلاة . و اصبح يزورنا كل يوم أحد فقط . و تغير الحال تماماً . فبعد ان اعتمد عليه جدى فى التحصيل و متابعة الأعمال . أصبح لزاماً عليه مرة اخرى ان يباشر أعماله بنفسه . مما أخرجه قليلاً من حالة الحزن .
لم تنقطع طبعاً زيارته كل يوم احد لأبو جرجس . كنت أذهب لأحضر الفاكهة من أبو جرجس فى المواعيد التى يحددها جدى . فأبو جرجس هو من تبقى . زادت جلساتهم و طالت . كنت احضرها كل يوم احد بعد عودتنا من الكنيسة . كان مرض السكرى هو ما ينقصه . اصيب به و اصبحت خطواته ثقيلة . اسير معه كثيراً . مع الوقت عرفت الكثير من أسرار الشغل . كنت انزل فى اوقات كثيرة لأنفذ ما يطلبه و توصيل اوامره للعمال . أباشر كثير من العمل. أصبح يعتمد علىّ فى الكثير و كنت سعيداً بتحمل المسئولية . فى الصيف , أمر على المحلات و على الجراجات أعرف طلبات العمال و احتياجات المحلات . لم يكن التليفون المحمول قد ظهر , فقد كنت اكتب كل شىء حتى أصل الى محطة البنزين و اكلمه من هناك . لم أعد الباشا الصغير بل " الباشا " فقط . كنت فى ثانية ثانوى . و لكنى صرت الباشا . اعرف أسماء العمال و القابهم . ادفع للموردين و اقوم بالتحصيل الأسبوعى . ادفع الأجور و المرتبات . كنت سعيد بما أفعله لأنه كان يسعد جدى . حتى حدث ما حدث .
-8-
توفى أبو جرجس فى حادث أثناء قيادته السيارة . و كالعادة سارع جدى ليكون اول المعزيين و اخر المنصرفيين . فتح الكنيسة و المدفن , و تلقى العزاء . كنت بجواره . أساعده و انفذ ما يطلبه منى . حتى أنتهت صلاة صرف الروح . ثلاثة ايام و جدى يفعل كل شىء كأنه يجهز لموته هو . و عزى جدى جرجس الأبن و اوصاه بأن يحضر جنازته لأنه من ريحة المرحوم . و لان الحديث كان امامى فقد أصبحت شاهداً عليه .
تعب جدى كثيراً نتيجة للمجهود و لمرضه . و نُقل الى المستشفى .. اصبح كل شىء فى المحلات و الجراجات و المحطة تحت مسئوليتى أنا و خالى . انفذ اوامره و انقلها بحرفها . حتى عبر ازمته و لكنه لم يعد الى سابق عاداته . لم يعد ينزل او يباشر حتى اعماله . كل العادات للمرة الأولى تغيرت و لكن عادة يوم الأحد لم تتغير . كنا نجتمع كل يوم احد فى بيت جدى للغداء معه . كانت امى و جدتى هما من يشترين الخضار و الزفر و الفاكهة . كنا نذهب الى الكنيسة و يعود هو الى البيت بعد القداس بالسيارة و الف انا مع جدتى و امى لشراء الطلبات و ندفع ثمنها . دخلت الثانوية العامة و تغير الحال أكثر . لم أعد متفرغ للمرور على المحلات . لم أعد اذهب كثيراً للغذاء يوم الأحد معهم بأوامر جدى . بل يتركونى فى منزلنا للمذاكرة . و يرسل لى الغذاء و طبق السلطة الذى يصنعه بنفسه الى البيت . كان جدى هو من يمر قليلاً . عيّن جدى احدى المعاونين له , عامل من البنزينة , مما عرف عنه نظافة اليد . لم أعد اراه كثيراً و لكنه كان ينتظر و يدعو لى كل أحد أن يصبح الباشا الصغير مهندساً .
-9-
نتيجة الثانوية . مهندس . يفرح جدى كثيراً . نجاحى يعيده الى سابق عهده . مكافأة اسبوع لكل العمال . تطورت و أصبحت " الباشا البشمنهدس " . امر بنفسى مع ذلك العامل . اعطى التعديلات التى يرغبها جدى . مكافأة لى منه , اسبوع سفر الى شرم الشيخ على حسابه . عدنا الى عادتنا القديمة . نمر مرتين او ثلاثة فى الاسبوع . نعاكس فتحية سوياً و تزداد ام جمعة شباباً !!! . نلقى السلام فقط على محمود كالعادة . و نمر على جرجس فلا نجده فى المحل بأستمرار . لم يحزنه ذلك كثيراً . فقد كان سعيداً بحفيده المهندس . نجتمع على سفرة واحدة , بناته و الازواج و الاحفاد . اصبح كرسىّ بجواره . يجهز جدى السلطة و المزّة بنفسه مع دخول أول زوج . أخيراً نسمع اخر نكتة يلقيها جدى و كانت نكتة كما سمعتها " نكتة حراقة " . يضحك ضحكته الشهيرة و " يطرقع " كأسه بكأسى . فقد اصبح مسموح لى بالجلوس فى مجلسهم فقد " كبرت يا واد يا باشمهندس " . يحضر خالى من الدير اخر واحد , على الغذاء مباشرة . تكتمل العائلة . و بسخرية رب العائلة , تدمع عيوننا من الضحك من جديد .
-10-
الأحد . نمر بأنفسنا نشترى الخضار و الزفر . بعد عودتنا الى البيت . يرسلنى جدى الى جرجس لشراء الفاكهة . " بطيختين حُمر مرملين " على حد قوله . نزلت الى جرجس و أخبرته بالطلب و انى من طرف جدى لأذكره بنفسى لأنه لم يرنى الا مرة واحدة .
عايز أيه ؟ .. بطيختين .
وزن جرجس البطيختين و ابلغنى بالسعر و طلب النقود . فذكرته بنفسى مرة اخرى و ان " عليه أن يمر على جدى فى البنزينة " . يجيبنى جرجس فى وضوح " اللى عايز حاجة ييجى ياخدها و يدفع تمنها , احنا مش بنبيع شكك و مش حروح أعدى على حد , بلاش قرف و وجع دماغ . "
و لأن الموقف أصبح محرج . اخرجت ما معى من نقود و دفعت ثمن البطيختين . وعدت الى المنزل مصدوم صامت مذهول مما حدث . دخلت و وضعت البطيخ على السفرة . خرج جدى من غرفته . دخل المطبخ و التقط السكين الطويلة . يشق الاولى نصفين و يتذوقها فلا تعجبه . يشق الأخرى , أسوأ من الأولى . يلعن جدى و يسب فى الكيماويات التى خربت الفاكهة و الخضار . يطلب منى " معلش انزل هات أتنين تانى و قوله ياخد باله المرة دى بدل ما اروحله و اهزئه , هههههه " . تلعثمت و أجبت " اصل الفلوس ... " , جدى بغضب " فلوس ايه ؟ ... عيب الكلام ده , هو عارف من أيام أبوه , يعدى علىّ فى البنزينة و ياخد اللى هو عايزه " . أخبرته بأنى دفعت ثمن البطيختين و انه قال " اللى عايز حاجة ييجى ياخدها , و مش حعدى على حد , بلا قرف " . يسمع جدى كلماتى فى ذهول . تسقط السكينة من يده على قدمه فتجرحها . يذهب الى غرفته و يغلقها . لم يُعدّ السلطة كعادته و لم يخرج للغذاء متعللاً بأنه مرهق و لا يريد الأكل . يغلق جدى الباب على نفسه بقية اليوم , و لا يرى أحد .
-11 –
الخميس . يرن جرس التليفون . تجيبه أمى . و ما ان تسمع اولى الكلمات حتى تنهار فى البكاء . نلبس كيفما أتفق و نهرع الى بيت جدى لنتأكد من الخبر . توفى جدى . لا أصدق . ابكى كما لم أبكى فى حياتى . ما أن تدخل من باب الشقة , تتهمنى خالتى الدكتورة مباشرة بأننى السبب فى موته . بأننى انا من قتلته . " قلتله ليه انك دفعت الفلوس , قلتله ليه انه مش حيعدى ياخد الفلوس من البنزينة ؟ كنت تسيبه يفتكر انه لسه عايش أيام زمان " !!! .
يجبرنى خالى بأن أقف بجانبه لتلقى العزاء على باب الكنيسة و المدافن و القاعة , حسبما اوصى جدى . أخبر أبى بوجوب ابلاغ محمود أبن الحج مصطفى و جرجس , لأن اذا كنا نسعى لتطبيق وصية جدى , فلابد من حضورهما الجنازة لأننى شاهد على هذه الوصية . لا يحضر محمود الجنازة لانه أصبح متدين كما فهمت و لا يجوز ان يدخل كنيسة . أما جرجس فقد قابله والدى و خالى صدفة و عاتبوه على عدم حضوره فاجابهم بأن " الدنيا تلاهى و الواحد مشغولياته كترت و مبقاش فايق لحاجة و لا لحد " . يَصدُر قرار بعدها بعدم الشراء منه لأنه حسب قولهم " قليل الأصل " .
بعد الأربعين , يجتمع مجلس العائلة للتصرف فى ممتلكات جدى . خالى , الراهب , لا يجوز له التملك او الأدراة او الميراث بحكم الرهبنة التى يتبعها . فلا يجدوا حل الا ببيع المحلات و الجراجات و المحطة , و تقسيم الفلوس . اتدخل بأنه لا ينبغى ان نبيع أملاك جدى , لأنى بحكم مرورى معه أعرف كل كبيرة و صغيرة و أستطيع ان اديرهم بمساعدة خالى . يسكتنى أبى و يطلب منى الخروج من المكتب .
-12-
ذهبت جدتى لتعيش مع خالتى الصغيرة . نجتمع 3 مرات فى العام . مرة فى العيد الكبير و الثانية فى الصغير و الأخيرة فى قداس الذكرى السنوية لجدى الذى يقيمه خالى . بعد عشر سنوات و وفاة جدتى تلاشت أيضاً تلك العادة و أصبحنا نجتمع مرتين فقط . و لما طلبت من خالى ان يعيد القداس رغبة فى احياء ذكرى جدى الذى لم يتبقى منها شىء بعد بيع كل املاكه , يجيبنى خالى بجملة جرجس " الدنيا تلاهى و المشغوليات كتير " . لم اطلب منهم طبعاً مقاطعة خالى كما فعلوا مع جرجس . و لكنى قررت عدم دخول هذا الدير مرة اخرى .
-13-
مات جدى من 20 سنة و لم يتبقى منه الا ذكريات جميلة قليلة و ثلاث صور لنا معاً , و سر طبق السلطة الذى علمنى إياه . لم يتبقى من املاكه , الا نظارته الشمسية الريبان و عصاه لزوم الوجاهة . حتى فتحية المُزة خانته و تزوجت بأخر . حرصت على أن احصل على زجاجة النبيذ الأخيرة , و الذى كان يصنعه فى البيت . لم أشرب منها و تركتها لليلة فرحى . أرتدى كل فترة نظارته و امسك عصاه و أقف امام المرآة أضحك ضحكته , فأبكى . قررت أن لا أقطع عاداته . اذهب كل يوم أحد الى نفس الكنيسة , فلا أشعر بالرغبة فى الصلاة . قررت ان أصلى فى كنيسة أخرى لا أرى فيها وجهه مع المصلوب . امر على محمود لألقى عليه السلام فلا يتذكرنى ! . أم جمعة خالفت وصيته و لم تعد شباباً بل ماتت عجوز و فتحية بعد زواجها لا تنزل السوق . اصبحت كل النكات قديمة لا تُضحك . باع جرجس محل أبيه الفكهانى و حولّه الى محل للوجبات السريعة , مليئة بالكيماويات التى يكرها جدى .
مات جدى من 20 سنة و مازالت خالتى مقتنعة بأنى قتلته . مات جدى و لم يتبقى منه الا صورته الكبيرة المعلقة على الحائط فى صالون بيت العائلة الذى لا نجتمع فيه الا مرتين فى العام . مات جدى و مازلت أشعر بالذنب من جراء كلمات خالتى . مات جدى و مازلت حتى الأن لا أعرف السبب الحقيقى لوفاته .
-14 –
أركب السيارة البيجو ال504 , التى أصرت أمى على الأحتفاظ بها . اعطتنى أياها . أذهب الى مدرسة أبنى لأحضره . يركب بجوارى مشمئزاً و يخبرنى أنه حان الوقت لكى نبيع تلك " الخردة " و نشترى واحدة أخرى موديل العام . أهز رأسى " ربنا يسهل " . أخبره بأنه سيذهب مع أمه ليبيت عند جده لأنى مسافر لمدة أسبوع . يمط شفتيه و يتمتم " بلا وجع دماغ " . أنظر اليه فى صمت و أنطلق بالسيارة الخردة الى المنزل .