Monday, August 21, 2006

الصراع العربي ـ الإسرائيلي.. هل هو صراع ديني؟

الصراع العربي ـ الإسرائيلي.. هل هو صراع ديني؟
بقلم د.نصر حامد أبوزيد

هناك من يتخوف من تحويل الصراع العربي ـ الإسرائيلي إلي صراع ديني، ولا شك أن هذه التخوفات لها ما يبررها، انطلاقا من واقع أن المقاومة المسلحة ضد مشروعات الهيمنة الأمريكية الصهيونية ترفع رايات دينية. وقبل تحليل هذه التخوفات وتفكيك أسبابها ينبغي التمييز بين التخوفات المشروعة وبين العصاب اللاديني. أقصد بهذا الأخير نمطا من الخطاب معاديا للدين - أي دين - جملة وتفصيلا. وهذا الخطاب يري في الدين قوة معوِّقة أو علي الأقل يري الدين قوة مُعطِّلة لفعاليات التقدم والتطور والتنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية عموما، وللتنمية البشرية علي وجه الخصوص. هؤلاء المصابون بعصاب الفزع من الدين ينتجون خطابا رثا لا يمكن التعامل معه، لأنه خطاب ينبني علي مطلقات لا تختلف كثيرا عن المطلقات التي ينبني عليها خطاب بعض الجماعات الإسلامية. والخطاب الأول ليس إلا انعكاسا للخطاب الثاني علي أية حال. فالخطاب الإسلامي المتعصب والاستبعادي والإقصائي هو الأصل، وخطاب العصاب اللاديني هو الصدي.

من هنا ينبغي التعامل مع خطاب التخوفات المشروعة، التي تستند إلي حقائق موضوعية: أولا: هناك حزب الله في لبنان الذي اشتبك - وحقق انتصارا صموديا - في حرب شرسة ضد الهمجية الوحشية الإسرائيلية، المؤيدة تأييدا كاملا من قبل الإمبراطورية الأمريكية الجديدة، والتي وقف العالم كله إزاءها موقف المتفرج العاجز. أما النظام العربي فقد كان أقل من متفرج عاجز، كان متواطئا. صمود المقاومة - بقيادة حزب الله - والوحدة الرائعة للشعب اللبناني غيرت المواقف؛ فحاول العالم أن يتجمل بعد أن أدرك النظام العربي أن المقاومة عرَّت سوأته.

ثانيا: هناك «حماس» التي اختارها الشعب الفسطيني اختيار مضطر، لأنها القوة السياسية التي لم تبتلع طعم السلام الإسرائيلي القائم علي الهيمنة والسيطرة وظلت رافعة سلاح «المقاومة المسلحة». يتعرض الشعب الفلسطيني للتشريد والتجويع والقتل اليومي وهدم المنازل وتجريف الأرض، فضلا عن اعتقال واختطاف القيادات السياسية وأعضاء البرلمان المنتخبين.

وهناك - ثالثا: المقاومة العراقية ضد الاحتلال وضد المتعاونين معه.

ما يثير تخوف المتخوفين أن حزب الله اللبناني يرفع شعار «الشيعة»، وأن «حماس» منظمة إسلامية «سنية»، وأن المقاومة العراقية ترفع شعارات دينية طائفية تميز بين «السنة والشيعة» من جهة، وبين «العرب والأكراد» من جهة أخري. من هنا يصبح السؤال مشروعا: هل نحن إزاء مقاومة دينية طائفية تحول الصراع إلي صراع ديني، أم نحن إزاء «مقاومة» تتطلب منا التأييد بلا شروط؟

والسؤال علي مشروعيته يستأهل التفكير بالعودة إلي الجذور التاريخية القريبة للأزمة التي أدت إلي «تديين» الصراع قبل أن تولد المقاومات التي نتحدث عنها. في تقديري أن أزمة إلغاء الخلافة في تركيا عام ١٩٢٣ نتج عنها وعي إسلامي متأزم لم يفارق تأزمه بعد. كانت تركيا بصدد عملية تطور داخلي لبناء الدولة القومية الحديثة. ومشروع الدولة القومية الحديثة في العصر الحديث قام علي أنقاض الإمبراطوريات القديمة. المشكلة أن تفكيك الإمبراطورية العثمانية تم بفعل تدخل قوي خارجية. كان قرار الكماليين الأول بفصل السلطنة عن الخلافة قرارا حكيما لأنه يفصل الديني عن السياسي، هو قرار قوبل بحماس شديد في مصر علي الأقل. ربما كان الإبقاء علي «الخلافة» رمزا لوحدة العالم الإسلامي قد عصم الوعي الإسلامي من التأزم، فقد كان من شأنه أن يبقي وحدة الرابطة الدينية مستقلة عن الشأن السياسي للدولة الحديثة. لكن ذلك لم يحدث فتم إلغاء الخلافة والجميع يعرف رد فعل العالم الإسلامي، ورد فعل الأنظمة، حيث حاول كل ملك وأمير وحاكم أن يعين خليفة للمسلمين. كان قيام جماعة الإخوان المسلمين في مصر عام ١٩٢٨ أحد ردود الفعل.. هذا أولا.

ثانيا: قيام دولة إسرائيل الذي تزامن تقريبا مع قيام دولة باكستان علي أساس ديني محطة مهمة في تعميق تأزم الوعي الإسلامي. ينبغي هنا تأكيد الفروق بين الدولتين، فلم تقم باكستان الدولة علي أنقاض شعب كما هو حال قيام إسرائيل. التشابه هنا هو قيام كيانات سياسية علي أسس دينية بمباركة وتشجيع من أوروبا العلمانية التي يعتبر الفصل بين السلطة السياسية والسلطة الدينية فيها أمراً لا يحتمل النقاش «انظر العلمانية الفرنسية التي هددها الحجاب الذي يرتديه بعض الفتيات، وانظر العلمانية التركية التي تتبع نفس السبيل».

ثالثا: لا يجب أن ننسي محطة هزيمة ٦٧ التي تم تفسيرها تفسيرا دينيا - انتصار الإيمان علي العلمانية - كما هو معروف في «سجود الشكر» الشهير للمرحوم الشيخ «محمد متولي الشعراوي». وفي حرب ٧٣ رأي الشيخ «عبد الحليم محمود» فيما يري النائم أن «الملائكة» حاربت مع المسلمين في الموقعة.

رابعا: التحالف الاستراتيجي الآن بين الصهيونية والمسيحية في أمريكا فيما يعرف باسم المسيحية الصهيونية هو الجذر الديني للمحافظين الجدد، وخطاب بوش الديني بوصفه رئيسا مُلْهَما شديد الدلالة في هذا الصدد. البعض يتصور الخلاف بين أمريكا وأوروبا هو خلاف «بروتستانتي-كاثوليكي»، وهو خلاف يفسر لهذا البعض تحالف بريطانيا البروتستانتية مع أمريكا. وهو تصور لا يستطيع تفسير تحالف الكنيسة الكاثوليكية مع أمريكا مع «الأصولية الإسلامية» للقضاء علي «الشيطان الأحمر»، إلا بأن يقول إنه تحالف «الإيمان» ضد «الإلحاد».

ثم نأتي أخيرا إلي حرب أمريكا ضد «الإرهاب»، التي تكشفت عن مشروع الشرق الأوسط «الكبير» عام ٢٠٠٣، ثم صار الشرق الأوسط «الجديد» مع الحرب الدائرة الآن في لبنان. الترابط بين الديني والسياسي إذن ترابط له تاريخ، والوعي بهذا التاريخ يكشف أن عوامل الترابط لم تنشأ بفعل عوامل داخلية محلية بحتة، بل بفعل تفاعل العوامل الداخلية مع الخارجية، تحديدا الأطماع الاستعمارية والإمبريالية التقليدية، والأطماع الإمبراطورية الحالية، وهي أطماع من مصلحتها تجييش الدين وتصدير هذا التجييش من أجل تحقيق انتصار حاسم ونهائي.

إن هذه القوي المعادية - أمريكا وإسرائيل تحديدا - بأطماعها المعروفة تجيش الدين علي مستوي الخطاب، لكنها علي مستوي الفعل تتسلح بالمعرفة: العلم والتكنولوجيا وبناء مؤسسي للدولة الحديثة.

لنناقش الآن بؤر المقاومة التي تثير الخوف لدي البعض بتديين الصراع. حزب الله نشأ في لبنان، وولد من رحم المقاومة الفلسطينية التي رُحِّلت بالقوة عام ١٩٨٢ من لبنان. منذ نشأته حتي الآن لم تُصوَّب بندقية إلي الداخل، ولم يشارك في الحرب الأهلية في حدود ما يصرح به خصوم حزب الله. حتي في مقاومته تحلي الحزب بأخلاقية رفيعة، فلم يوجه سلاحه ضد المدنيين الإسرائيليين إلا في هذه الحرب الأخيرة. وحين أعلنت إسرائيل عن وقف العمليات الحربية من الجو لمدة ٤٨ ساعة، لم يصوب حزب الله إلي إسرائيل أي صاروخ. إن حزب الله الشيعي يمارس المقاومة لا القتل، ويدافع عن لبنان، ولا يدمر تدميرا عشوائيا. إنها أخلاقيات الفروسية، يمارسها الحزب في وجه عدو شرس مدمر، لكنه لا يسمح لهذا التدمير ولتلك الشراسة أن تهز أخلاقياته. علي المتخوفين أن ينصتوا بانتباه إلي خطاب «حسن نصر الله»، إلي اللغة الهادئة الدقيقة والحاسمة دون أن تخلو من روح الدعابة اللبنانية. غياب الادعاء بتحقيق نصر نهائي حاسم، أو بتحرير الأرض تحريرا نهائيا، بل والإصرار علي تأكيد تواضع الإمكانيات العسكرية إذا قورنت بالآلة العسكرية المدمرة الطائشة التي تتجدد يوميا للعدو. هذا قائد مقاومة يعني ما يقول، ويقول ما يفعل. في هذا الخطاب، وأنا أتابعه متابعة دقيقة، لا تديين للصراع، ولا طائفية للمقاومة. من أين يأتي الخوف إذن؟ مصدر الخوف هو الأنظمة الخليجية تحديدا، حيث تخشي هذه الأنظمة من ثورة شعوبهم المكونة من جماعات شيعية مقموعة هنا وهناك. مصدر الخوف هو إيران، وتلك قصة تحتاج لمقال مستقل أعد به قريبا، ربما نتناول فيه مسألة المثلث الشيعي، وتورط الرئيس المصري في هذا المعترك. أتمني في مقالات قادمة أيضا أن أتناول «حماس» حركة المقاومة الإسلامية، والمقاومة العراقية، من منظور السؤال عن «تديين الصراع».

يكفي اليوم الكشف عن البعد اللاطائفي في الحرب الدائرة اليوم، وتوجيه التحية إلي «حسن نصر الله» وإلي كل اللبنانيين شيعة وسنة ومسيحيين ودروزاً وموارنة. التحية إلي لبنان، التعددية والليبرالية، الصيغة التي لا تحتملها إسرائيل، ولا تحتملها الأنظمة العربية، ولا يحتملها العالم بقيادة أمريكا التي تسعي إلي خلق شرق أوسط جديد مكون من كانتونات طائفية عرقية يزدهر فيها الكيان الصهيوني ويسود.


No comments: