Saturday, December 06, 2008

فرائض واجبة

متى تمارس السلطة سلوكاً عنيفاً يصل الى حد الغضب المستعر و ممارسة الانتقام و التصفية الدموية الفعلية للعامة حين يتطاولون و يتجرأون عليها ؟

أتصور ان يحدث هذا التحول السلطوى من اللامبالاة للغضب و التهديد و العنف القمعى حين تنتبه السلطة لأمكانات الخطر المضمرة فى هذه المساحات للخطاب الذى يتداوله العامة من وراء ظهرها , ينال فعلياً من سطوتها و هيبتها !! تلك الهيبة التى أسست على القوة و القمع و الأستبداد و الخوف و لم تبن على تعاقد أجتماعى و رضى و قبول و تبادل للحقوق و الواجبات بين الراعى و الرعية !! إن السلطة تعى بغتة الأمكانات الخطرة لتنامى هذا الخطاب و تطوره و تراكمه و انتشاره و الذى قد يغدو تربة خصبة ممهدة لحدوث التمرد الفعلى أو الثورة الحقيقية , حيث يعد أنذاراً مبكراً ملوحاً بأمكانات اختلال العلاقة بين السلطة و الرعية بل و أختلال النظام و الأمن و أختراق العدى للحمى , كما ذكرنا آنفاً !! و تزداد وطأة المسألة و خطورتها حين لا يكتفى هؤلاء الرعاع بالأقاويل و الشائعات بيد أنهم يحاصرون السلطة و يراقبونها و يخترقون عوالمها السرية منتكهين قدسيتها المزعومة .

يروى التوحيدى فى الأمتاع كما يلى :

" قال الوزير فى بعض الليالى : قد و الله ضاق صدرى بالغيظ لما يبلغنى عن العامة من خوضها فى حديثنا و ذكرها أمورنا , و تتبعها لأسرارنا , و تنقيرها عن مكنون أحوالنا , و مكتوم شأننا و ما أدرى ما أصنع بها , و أنى لأهم فى الوقت بعد الوقت بقطع السنة و أيد و أرجل و تنكيل شديد , لعل ذلك يطرح الهيبة و يحسم المادة و يقطع هذه العادة لحاهم الله , مالهم لا يقبلون على شئونهم المهمة , و معايشهم النافعة , و فرائضهم الواجبة ؟ و لم ينقبون عما ليس لهم و يرجفون بما لا يجدى عليهم , و لو حققوا ما يقولون ما كان لهم فيه عائدة و لا فائدة "

أختراق العامة

إن السلطة التى تمتلك مفاتيح السيطرة فيما يبدو للوهلة الأولى , و التى يندس عسسها و رقباؤها فى كل مكان تكتشف على حين غرة , و من خلال هذه الممارسات الفضولية للعامة عجزها عن إحكام السيطرة الكاملة على هؤلاء . و لعلها تواجه عدم قدرتها على أختراق عوالمهم السرية , بالقدر نفسه و الدرجة نفسها التى بها يخترقون أسرارها و يستبيحون خصوصياتها , و يخوضون فى سيرتها خوضاً ينال من هيبتها و قداستها . و هكذا تدرك السلطة بغتة مدى الحصار الذى يمارسه عليها هؤلاء الرعاع , السيل الغثاء , و كيف يضيقون الخناق عليها بما يؤدى لقلب التراتب القمعى لحسابهم . فرغم كل أشكال الزجر و إمكانات الوعيد فأن هؤلاء العامة الهمج لم يكفوا أبداً عن ممارستهم المزعجة و المتحدية و المخترقة لسياجات السلطة و حدودها المقدسة . و لعل المبالغة فى التهديد السلطة بقطع الألسنة و الأيدى و الأرجل و التنكيل الشديد بهؤلاء الرعاع لا تكشف فحسب عن الوجه الأستبدادى القمعى للسلطة الظالمة بقدر ما تكشف عن كم التهديد الذى قد يشكله البسطاء بفضولهم و شائعاتهم , و من ثم عن كم الخوف و القلق و العجز السلطوى إزاء الممارسات . بل يمكننا القول أن العنف السلطوى إزاء هؤلاء هو أقصى ما تقدر عليه أو تملكه , و هو ما يشى بعجزها عن السيطرة الفعلية , السيطرة على وعى هذه الجماعات و امتلاك ولاء الروح و و التغلغل فى عمق الداخل حيث يحاصر النظام الفرد و الجماعة من الداخل , و ليس من الخارج , و هذه هى السطوة الحقة !!

الطابع المقدس للسلطة

و من المفارقات اللافتة فى هذا السياق أنه بينما تمارس السلطة كل حقوقها , بل تتجاوزها جوراً و طغياناً و بغياً , و إذ تسعى لإلهاء الرعية , و تغييب وعيهم و نفى حضورهم و فاعلياتهم , فأنها لا تكف عن مطالبتهم بأداء فرائضهم الواجبة و المحتومة !! و لعل فى أستخدام كلمة فرائض واجبة ما يوحى بالطابع المقدس للسلطة أو ما تحاول إيهام الرعية به , و نشره بينهم و تشكيل صورتها و سطوتها من خلاله فى مرايا وعيهم و زرعه فى ضمائرهم و أرواحهم . و هو الأمر الذى يفسده العامة حين يخوضون فى أخبارها و يفتشون فى أسرارها و يتجرأون عليها فينتهكون مساحات القداسة و الخضوع و الطاعة المطلقة و الفريضة الواجبة !! و لعلنا لا نبالغ إذا قرأنا هذا الزهو السلطوى بدوره فى أطار العجز و الخوف أكثر من كونه إعلاناً عن الحضور و السطوة , بل انه ممارسة دفاعية عالية الصوت تكشف عن نقيضها العميق , حيث الأهتزاز السلطوى فى أزمنة العبث و العنف و التصفيات الدائمة .

 

---

د . هالة فؤاد

جزء من مقال " متى يغضب السلطان ؟ "

نشر بالعدد 601 بمجلة " العربى " ديسمبر 2008 

10 comments:

abderrahman said...

مقال حلو
في الفقرة الأولى الكاتبة اتكلمت عن الخطاب اللي بيتداوله العامة، كان حقها ذكرت ملامح الخطاب ده واتكلمت بتفصيل اكتر، لفظ الخطاب بقى فيه افراط في استخدامه، لحد ما بقى غامض

بس موضوع حلو، عن نوع مختلف من الصراع
تسلم إيدك

واحده وحيده said...

بدون تعليق محدد على كلام أنا أكيد من أده
إليك الآتى:
تعرفت مدونتك بالصدفه البحته جدااااااااااااا
فضلت مذهوله شويه
تجولت فى أرجائها
و توقفت قليلاً فى الدهاليز

إحتجت بعض الوقت لأستجمع شجاعه مزعومه تجعلنى اكتب حرفاً هنا
لم تأتِ طبعاً .... "دى اللى هى الشجاعه"... و لكنى استدعيت فرقة الطوارىء بتاعتها

صاحب الغوايه :
هل تقبلنى هنا موجوده بأى الأشكال كان التواجد؟

هنا ماعندكش اللى يخلينى أدخل برابط مكانى الطبيعى
و بالتالى هاسيبه مكتوب هنا لو حبيت تزورنى
بافتراض يعنى

أما المكان اللى هاسيب بإسمه التعليق فهو مكان مهجور منذ شهور
وإحتمال تلاقى خفافيش مش بس هلّوس وبيوت عنكبوت

http://wahedah.maktoobblog.com
و إسمى هناك واحده وحيده

قول إحم دستور أى حاجه و إنت داخل

تحياتى من هناك
و هنا برده

الازهرى said...

العزيز رامز

اعتذر عن الغياب ولكن كان ذلك خارجا عن الارادة

المقال جميل وتحليل منظم للاوضاع المختلفة لمراحل تطور الصراع بين الحومة وغثاء السيل

تحياتى
وكل سنة وانت طيب

Anonymous said...

ماهي السلطة لازم تذل الشعب المصري عشان تحكمه
امال ازاى تحكمه يعني؟
ذل الحكومة ولا حروب اهلية و تصفيات دينية؟

قلم جاف said...

لكن بيني وبينك السلطة ، أو أي ساع للسلطة (زي المال السياسي) لا تخترق العامة بهذا الشكل فقط ، يمكن لأن المقال منشور في "العربي" اللي بتعشق اللعب المرضي على فكرة "الاستبداد" و"العصا"..

أي ساعٍ للسلطة إذا أراد اختلاق مجتمع من نوع ما حيلجأ كمان للجزرة.. والجزرة أكثر فعاليةً في الاختراق من العصا ، وبتعكس نفس المخاوف التقليدية من العامة ، لكن الفرق إن الاختراق بالجزرة بيوجه الطاقة الكامنة لدى العامة والبسطاء في الاتجاه اللي السلطة عايزاه ، أياً كان نوع السلطة ، أما الأغبياء من مرضى السلطة فلا يفكرون إلا في العصا.. سبب من ضمن أسباب كثيرة لانقراض هذه الفئة ولحاقها بالديناصورات..

بالمناسبة .. أغلب أحزاب المعارضة مثلت أحزاب وقوى حكمت مصر .. كلهم يعدوننا بالجزرة رغم أنهم لم يحكمونا.. إلا بالعصا!

ذو النون المصري said...

طبعا لازم لحظة ضعف السلطه عن احكام رقابتها علي الشعب ان تهم بالتنكيل بزياده عن ذي قبل
...............زز
كل عام انتم بخير
تحياتي

عباس العبد said...

عبده باشا
انا مش عارف انت قريت المقال كامل فى العربى و لا لأ ..
بس هى شارحة كل حاجة فى المقال , 6 صفحات
هو فى مجلة العربى , مش جريدة العربى
خد بالك
===
سبع الليل
يا فندم المدونة دى بتاعتك
تشرفيها فى أى وقت
===
الأزهرى
كل سنة و أنت طيب
لك وحشة يا رجل
منورنى و مستنيك فى أى لحظة و ان شاء الله يكون سبب الغياب خير

عباس العبد said...

مصرى
لا كده و لا كده
صحيح فى ناس بتقول اننا شعب ما يمشيش الا بالكرباج
لكن فى الأخر احنا بنى أدمين
مش عبيد
===
قلم جاف
العصا و الجزرة لعبة الأمم
و على ما اتذكر اذا سمحت لى هناك جملة سمعتها نقلاً عن الخليفة عثمان بن عفان و هى : ( حسب ذاكرتى و صلحلى لو غلطان )
" ما لم يحدث بالقرآن .. يحدث بالسلطان "
كلامك مظبوط .. بس هى كانت بتتكلم عن جانب " العصا " فقط
مشرفنى و غيابك عندك فى تدويناتك طول و لازم ترجع يا باشا
انا قريت اخر واحدة اللى بدون تعليقات
و مستنى القادم
و كل سنة و انت طيب
===
ذو النون المصرى
كل سنة و انت طيب
المقال جامد جداً
و مبروك عليك الألف كتاب
===

جلال كمال الجربانى said...

أختيار طيب وعرض موفق


وكل عام وأنتم بخير
بمناسبه عيد الأضحى المبارك أعاده الله علينا جميعا بالخير
وبالحريه
وبالعلم
والأبداع

م/ الحسيني لزومي said...

تقبل الله منا ومنكم
وكل عام وانتم بخير